الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فقوم نوح أهلكوا بالغرق، وعاد بالريح، وثمود بالصيحة، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم، حتى سلطت البعوضة على نمرود ملكهم، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلة، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل، وأمطار الحجارة عليهم.قال الواحدي: معنى الائتفاك الانقلاب، فأفكته فائتفك أي قلبته فانقلب.والمؤتفكات صفة للقرى التي ائتفكت بأهلها، فجعل أعلاها أسفلها.والمؤتفكات مدائن قوم لوط.وقيل: قريات قوم لوط وهود وصالح.وائتفاكهن: انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر.قال ابن عطية: والمؤتفكات أهل القرى الأربعة.وقيل: التسعة التي بعث إليهم لوط عليه السلام، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان:
أي غير منقلب متصرّف مضطرب.ومنه يقال للريح: مؤتفكة لتصرفها، ومنه {أنى يؤفكون} والإفك صرف القول من الحق إلى الكذب انتهى.وفي قوله: {ألم يأتهم}، تذكير بأنباء الماضين وتخويف أنْ يصيبهم مثل ما أصابهم، وكان أكثرهم عالمين بأحوال هذه الأمم، وقد ذكر شيء منها في أشعار جاهليتهم كالأفوه الأزدي، وعلقمة بن عبدة، وغيرهما.ويحتمل أن يكون قوله: {ألم يأتهم} تذكيرًا بما قص الله عليهم في القرآن من أحوال هؤلاء وتفاصيلها.والظاهر أنّ الضمير في {أتتهم رسلهم بالبينات} عائد على الأمم الستة المذكورة، والجملة شرح للنبأ.وقيل: يعود على المؤتفكات خاصة، وأتى بلفظ رسل وإن كان نبيهم واحدًا، لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولًا داعيًا، فهم رسول رسول الله، ذكره الطبري.وقال الكرماني: قيل: يعود على المؤتفكات أي: أتاهم رسول بعد رسول.والبينات المعجزات، وهي وأصحاب بالنسبة إلى الحق، لا بالنسبة إلى المكذبين.قال ابن عباس: ليظلمهم ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبيًا ينذرهم.والمعنى: أنهم أهلكوا باستحقاقهم.وقال مكي: فما كان الله ليضع عقوبته في غير مستحقها، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إذ عصوا الله وكذبوا رسله حتى أسخطوا ربهم واستوجبوا العقوبة، فظلموا بذلك أنفسهم.وقال الكرماني: ليظلمهم بإهلاكهم، يظلمون بالكفر والتكذيب.وقال الزمخشري: فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح، وأن يعاقبهم بغير جرم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه انتهى.وذلك على طريقة الاعتزال.ويظهر أن بين قوله بالبينات.وقوله: فما كان كلامًا محذوفًا تقديره والله أعلم فكذبوا فأهلكهم الله، فما كان الله ليظلمهم. اهـ. .قال أبو السعود: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي المنافقين {نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي خبرُهم الذي له شأنٌ وهو ما فعل بهم والاستفهامُ للتقرير والتحذير {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ} وهم قومُ شعيبٍ {والمؤتفكات} قَرْياتُ قومِ لوطٍ ائتفَكَت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلَها وأُمطروا حجارةً من سجيل وقيل: قرياتُ المكذبين بهم وائتفاكُهن انقلابُ أحوالِهن من الخير إلى الشر {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} استئنافٌ لبيان نبئهم {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} الفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلامُ ويستدعيه النظامُ أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما ظلمهم بذلك، وإيثارُ ما عليه النظمُ الكريمُ للمبالغة في تنزيه ساحةِ السُّبحان عن الظلم، أي ما صح وما استقام له أن يظلِمهم ولكنهم ظلموا أنفسَهم، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل في قوله عز وجل: {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} للدِلالة على استمرار ظلمِهم حيث لم يزالوا يعرِّضونها للعقاب بالكفر والتكذيب، وتقديمُ المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلةِ من غير قصدٍ إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديمَ موجبًا للقصر فيكون كما في قوله تعالى: {وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} من غير قصر للظلم على الفاعل أو المفعول وسيجيء لهذا مزيدُ بيان في قوله سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. اهـ..قال الألوسي: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي المنافقين {نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي خبرهم الذي له شأن واستفهام للتقرير والتحذير {قَوْمُ نُوحٍ} أغرقوا بالطوفان {وَعَادٌ} أهلكوا بالريح {وَثَمُودُ} أهلكوا بالرجفة، وغير الأسلوب في القومين لأنهم لم يشتهروا بنبيهم، وقيل: لأن الكثير منهم آمن {وَقَوْمِ إبراهيم} أهلك نمروذ رئيسهم ببعوض وأبيدوا بعده لكن لا بسبب سماوي كغيرهم {وأصحاب مَدْيَنَ} أي أهلها وهم قوم شعيب عليه السلام أهلكوا بالنار يوم الظلة أو بالصيحة والرجفة أو بالنار والرجفة على اختلاف الروايات {والمؤتفكات} جمع مؤتفكة من الائتفاك وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف، والمراد بها إما قريات قوم لوط عليه السلام فالائتفاك على حقيقته فإنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها وأمطر على من فيها حجارة من سجيل وإما قريات المكذبين المتمردين مطلقًا فالائتفاك مجاز عن انقلاب حالها من الخير إلى الشر على طريق الاستعارة كقول ابن الرومي:لأنها لم يصبها كلها الائتفاك الحقيقي {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} استئناف لبيان نبئهم، وضمير الجمع للجميع لا للمؤتفكات فقط {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما كان الخ، فالفاء للعطف على ذلك المقدر الذي ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، أي لم يكن من عادته سبحاته ما يشبه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم، وقد يحمل على استمرار النفي أي لا يصدر منه سبحانه ذلك أصلا بل هو أبلغ كما لا يخفى.وقول الزمخشري: أي فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح مبني على الاعتزال.{ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث عرضوها بمقتضى استعدادهم للعقاب بالكفر والتكذيب، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار، وتقديم المفعول على ما قرره بعض الأفاضل لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبًا للقصر كابن الأثير فيما قيل. اهـ. .قال القاسمي: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي: بطريق التواتر {نَبَأُ} أي: خبر {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم لكفرهم {قَوْمِ نُوحٍ} أنعم عليهم بنعم، منها تطويل أعمارهم، ثم أهلكوا بالطوفان {وَعَادٍ} قوم هود، أنعم عليهم بنعم منها مزيد قوتهم، ثم أهلكوا بالريح {وَثَمُودَ} قوم صالح، أنعم عليهم بنعم، منها القصور، ثم أهلكوا بالرجفة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} أهلكوا بالهدم- كذا في التنوير.وقال المهايمي: أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك، ثم أهلك ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب، أنعم عليهم بنعم، منها التجارة، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قريات قوم لوط، ائتفكت بهم، أي: انقلبت بهم، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل.وقوله تعالى: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} استئناف لبيان نبئهم، أن جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي: بإهلاكه إياهم، لأنه قام عليهم الحجة، بإرسال الرسل، وإزاحة العلل.والفاء للعطف على مقدَّر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، أي: فكذبهم فأهلكهم الله تعالى، فما ظلمهم بذلك {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: بالكفر والتكذيب، وترك شكره تعالى، وصرفهم نعمه إلى غيره ما أعطاهم إياهم لأجله، فاستحقوا ذلك العذاب. اهـ..قال ابن عاشور: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}عاد الكلام على المنافقين: فضمير {ألم يأتهم} و{من قبلهم} عائدَاننِ إلى المنافقين الذين عاد عليهم الضمير في قوله: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65]، أو الضميرُ في قوله: {ولهم عذاب مقيم} [التوبة: 68].والاستفهام موجه للمخاطب تقريرًا عنهم، بحيث يكون كالاستشهاد عليهم بأنّهم أتاهم نبأ الذين من قبلهم.والإتيان مستعمل في بلوغ الخبر كقوله تعالى: {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} وقد تقدّم في سورة العقود (41)، شُبْه حصول الخبر عند المخبَر بإتيان الشخص، بجامع الحصول بعد عدمه، ومن هذا القبيل قولهم: بلغَه الخبر، قال تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} في سورة الأنعام (19).والنبأ: الخبر وقد تقدّم في قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبإِ المرسلين} في سورة الأنعام (34).وقوم نوح تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه} في سورة الأعراف (59).ونوح: تقدّم ذكره عند قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحًا} في سورة آل عمران (33).وعاد: تقدّم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودًا} في سورة الأعراف (65).وكذلك ثمود.وقوم إبراهيم هم الكلدانيون، وتقدّم الكلام على إبراهيم وعليهم عند قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} في سورة البقرة (124).وإضافة {أصحاب} إلى {مَدْيَنَ} باعتبار إطلاق اسم مَدْيَن على الأرض التي كان يقطنها بنو مدين، فكما أنّ مدين اسم للقبيلة كما في قوله تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبًا} [الأعراف: 85] كذلك هو اسم لموطن تلك القبيلة.وقد تقدّم ذكر مَدين عند قوله: {وإلى مدين أخاهم شعيبًا} في الأعراف (85).{والمؤتفكات} عطف على {أصحاب مدين}، أي نَبَأ المؤتفكات، وهو جمع مؤتفكة: اسم فاعلٍ من الائْتِفَاك وهو الانقلابُ.أي القرى التي انقلبت والمراد بها: قرى صغيرة كانت مساكنَ قوم لوط وهي: سدوم، وعمورة، وأدَمَة، وصِبْوِيم وكانت قرى متجاورة فخسف بها وصار عاليها سافلها.وكانت في جهات الأردن حول البحر الميت، ونبأ هؤلاء مشهور معلوم، وهو خبر هلاكهم واستئصالهم بحوادث مهولة.وجملة: {أتتهم رسلهم} تعليل أو استئناف بياني نشأ عن قوله: {نبأ الذين من قبلهم} أي أتتهم رسلهم بدلائل الصدق والحقّ.وجملة {فما كان الله ليظلمهم} تفريع على جملة {أتتهم رسلهم}، والمفرّع هو مجموع الجملة إلى قوله: {يظلمون} لأنّ الذي تفرّع على إتيان الرسل: أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد، والمكابرة، والتكذيب للرسل، وصمّ الآذان عن الحقّ، فأخذهم الله بذلك، ولكن نُظِم الكلام على هذا الأسلوب البديع إذا ابتدئ فيه بنفي أن يكون الله ظلمهم اهتمامًا بذلك لفرط التسجيل عليهم بسوء صنعهم حتّى جُعل ذلك كأنّه هو المفرّع وجعل المفرّع بحسب المعنى في صورة الاستدراك.ونُفِي الظلم عن الله تعالى بأبلغ وجه، وهو النفي المقترن بلام الجحود، بعد فعل الكون المنفي، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} من سورة العقود (6).وأثبت ظُلمُهم أنفُسَهم لهم بأبلغ وجه إذْ أسند إليهم بصيغة الكون الماضي، الدالّ على تمكّن الظلم منهم منذ زمان مضى، وصيغ الظلم الكائن في ذلك الزمان بصيغة المضارع للدلالة على التجدّد والتكرّر، أي على تكرير ظلمهم أنفسهم في الأزمنة الماضية. اهـ..قال الشعراوي: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}وبعد أن ذكر الحق في الآية السابقة القضية العامة في قوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} جاء في هذه الآية بالأعلام والأشخاص وهم الرسل ومن عاداهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} وساعة يقول: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} فهنا همزة الاستفهام، ولا النفي. والهمزة تنفي هذا النفي، أي أتاهم نبأ هؤلاء. وحين ينفى النفي في أمر فالمراد إثبات الأمر، وأنت لا تستفهم الاستفهام الإنكاري، إلا وأنت واثق من أن الجواب عند من تسأله هو: نعم، فحين تقول لإنسان: أنت تخليت عني في محنتي. فيقول: ألم أزرك في يوم كذا؟ ألم أعطك كذا؟ ألم أصنع مع ابنك كذا؟ فهو واثق أنك لا تستطيع إنكار شيء من هذا لأنه ثابت ثبوتًا حقيقيًّا.
|